كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: من خيفة الرعد.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد.
وأن الله سبحانه جعل له أعوانًا: {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} من خلقه فيهلكه، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها، وهي الدلالة على كمال قدرته: {وَهُمْ يجادلون في الله} الضمير راجع إلى الكفار، المخاطبين في قوله: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} أي: وهؤلاء الكفرة مع هذه الآيات التي أراهم الله يجادلون في شأن الله سبحانه فينكرون البعث تارة، ويستعجلون العذاب أخرى، ويكذبون الرسل ويعصون الله، وهذه الجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة.
{وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال ابن الأعرابي: المحال المكر، والمكر من الله: التدبير بالحق.
وقال النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر.
وقال الأزهري: المحال: القوة والشدة، والميم أصلية، وما حلت فلانًا محالًا أينا أشد.
وقال أبو عبيد: المحال: العقوبة والمكروه.
قال الزجاج: يقال ما حلته محالًا: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، والمحْلُ في اللغة: الشدة.
وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد، وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان، وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت.
قال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة، بل هي أصلية.
وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية، مثل مهاد وملاك ومراسي وغير ذلك من الحروف.
وقرأ الأعرج: {وهو شديد المحال} بفتح الميم. وقد فسرت هذه القراءة بالحول. وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية:
الأول: العداوة.
الثاني الحول.
الثالث الأخذ.
الرابع: الحقد.
الخامس: القوة.
السادس: الغضب.
السابع: الهلاك.
الثامن: الحيلة.
{لَهُ دَعْوَةُ الحق} إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة، أي: الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه، كما يقال: كلمة الحق، والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها، لا كدعوة من دونه.
وقيل: الحق هو الله سبحانه، والمعنى: أن لله سبحانه دعوة المدعو الحق، وهو الذي يسمع فيجيب، وقيل: المراد بدعوة الحق ها هنا: كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له.
وقيل: دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه كما قال تعالى: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
وقيل: الدعوة: العبادة، فإن عبادة الله هي الحق والصدق: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَئ} أي: والآلهة الذين يدعونهم- يعني الكفار- من دون الله- عزّ وجلّ- لا يستجيبون لهم بشيء مما يطلبونه منهم كائنًا ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه؛ لأنه جماد لا يشعر بحاجته إليه، ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه.
ولهذا قال: {وَمَا هُوَ} أي: الماء: {بِبَالِغِهِ} أي: ببالغ فيه.
قال الزجاج: إلاّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب، أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه، وما الماء ببالغه.
وقيل: المعنى: أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه.
وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلًا بالقبض على الماء كما قال الشاعر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ** من الود مثل القابض الماء باليد

وقال الآخر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ** على الماء خانته فروج الأصابع

وقال الفراء: إن المراد بالماء هنا ماء البئر، لأنها معدن للماء، وأنه شبهه بمن مد يده إلى البئر بغير رشاء، ضرب الله سبحانه هذا مثلًا لمن يدعو غيره من الأصنام.
{وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ في ضلال} أي: يضل عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه شيئًا، ولا ينفعهم بوجه من الوجوه، بل هو ضائع ذاهب.
{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن في السموات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا} إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم، فلابد أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى: حق لله السجود ووجب، حتى يُناول السجود بالفعل وغيره، أو يفسر للسجود بالانقياد.
لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى.
ويدل على إرادة هذا المعنى قوله: {طَوْعًا وَكَرْهًا} فإن الكفار ينقادون كرهًا كما ينقاد المؤمنون طوعًا، وهما منتصبان على المصدرية، أي: انقياد طوع وانقياد كره، أو على الحال، أي: طائعين وكارهين، وقال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعًا، وبعض الكفار يسجدون إكراهًا وخوفًا كالمنافقين، فالآية محمولة على هؤلاء.
وقيل: الآية في المؤمنين، فمنهم من سجد طوعًا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيمانًا بالله وإخلاصًا له.
{وظلالهم بالغدو والآصال} وظلالهم: جمع ظل، والمراد به: ظل الإنسان الذي يتبعه، جعل ساجدًا بسجوده حيث صار لازمًا له لا ينفك عنه.
قال الزجاج، وابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهامًا تسجد بها لله سبحانه، كما جعل للجبال أفهامًا حتى اشتغلت بتسبيحه، فظل المؤمن يسجد لله طوعًا.
وظل الكافر يسجد لله كرهًا.
وخص الغدو والآصال بالذاكر، لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما، وهما ظرف للسجود المقدر، أي: ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين، وقد تقدّم تفسير الغدوّ والآصال في الأعراف، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شيء يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمائل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} [النحل: 48] وجاء بمن في: {من في السموات والأرض} تغليبًا للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعًا لسجودهم، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم: {لله} على الفعل من الاختصاص، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرّون على أنفسهم بأنها من الله، كالخلق والحياة والموت، ونحو ذلك.
{قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض} أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار: من رب السموات والأرض؟ ثم لما كانوا يقرّون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله: {ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9].
وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب، فقال: {قُلِ الله} فكأنه حكى جوابهم وما يعتقدونه، لأنهم ربما تلعثموا في الجواب حذرًا مما يلزمهم، ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال: {قُلْ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} والاستفهام للإنكار، أي: إذا كان رب السموات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86- 87] فما بالكم اتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين: {لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا} ينفعونها به: {وَلاَ ضَرّا} يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم، فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم، والجملة في محل نصب على الحال، ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلًا وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم.
فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} أي: هل يستوي الأعمى في دينه وهو الكافر، والبصير فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك.
قرأ ابن محيصن، وأبو بكر، والأعمش، وحمزة، والكسائي: {أم هل يستوي الظلمات والنور} بالتحتية.
وقرأ الباقون بالفوقية.
واختار القراءة الثانية أبو عبيد، والمراد بالظلمات: الكفر، وبالنور: الإيمان، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي: كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور؟ ووحد النور وجمع الظلمات، لأن طريق الحق واحدة لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير منحصرة.
{أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ}: {أم} هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، أي: بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، والاستفهام لإنكار الوقوع.
قال ابن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، أي: ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر عليهم، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون شيئًا، وجملة: {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} في محل نصب صفة لشركاء، والمعنى: أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه: {فَتَشَابَهَ} بهذا السبب: {الخلق عَلَيْهِمْ} حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم، بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها، وهي بمعزل عن أن تكون كذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال: {قُلِ الله خالق كُلّ شَئ} كائنًا ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه.
قال الزجاج: والمعنى: أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقًا، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق: {وَهُوَ الواحد} أي: المتفرّد بالربوبية: {القهار} لما عداه، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب.
ثم ضرب سبحانه مثلًا آخر للحق وذويه، وللباطل ومنتحليه فقال: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} أي: من جهتها، والتنكير للتكثير أو للنوعية: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} جمع وادٍ، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما.
قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلًا جمع على أفعلة إلاّ هذا، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل جريب وأجربة.
كما أن فعيلًا حمل على فاعل، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر.
قال: وفي قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} توسع أي: سال ماؤها، قال: ومعنى: {بِقَدَرِهَا} بقدر مائها، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها.
قال الواحدي: والقدر مبلغ الشيء، والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قلّ الماء وإن اتسع كثر، وقال في الكشاف: {بقدرها} بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ.
قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفع نزول القرآن يعمّ كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب: إذ الأودية يستكنّ فيها الماء كما يستكنّ القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين.
{فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} الزبد: هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل، ويقال له: الغثاء والرغوة، والرابي: العالي المرتفع فوق الماء.
قال الزجاج: هو الطافي فوق الماء، وقال غيره: هو الزائد بسبب انتفاخه، من ربا يربو إذا زاد.
والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحلّ ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح.
فكذلك يذهب الكفر ويضمحلّ.
وقد تمّ المثل الأولّ، ثم شرح سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النار} من لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، أو للتبعيض، بمعنى: وبعضه زبد مثله، والضمير للناس، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره.
هذا على قراءة: {يوقدون} بالتحتية، وبها قرأ حميد وابن محيصن، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص.
وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختار القراءة الأولى أبو عبيد.
والمعنى: ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة.
{ابتغاء حِلْيَةٍ} أي: لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون كالذهب والفضة: {أَوْ متاع} أي: أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص: {زَبَدٌ مّثْلُهُ} المراد بالزبد هنا الخبث، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في: {مثله} يعود إلى: {زبدًا رابيًا} وارتفاع: {زبد} على الابتداء وخبره: {مما يوقدون}،: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي: مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل، ثم شرع في تقسيم المثل فقال: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء} يقال: جفأ الوادي بالهمز جفاء: إذا رمى بالقذر والزبد.